الحكمة قبل الفتوى

من طرف Mohamed Badr 28.11.07 5:43

الحكمة قبل الفتوى

كتب دكتور علاء الدين عباس : بتاريخ 12 - 11 – 2007

روي لي الأستاذ حسن عاشور رئيس تحرير مجلة الاعتصام الإسلامي هذه الواقعة عندما كنا سويا في زنزانة عشرة بليمان طرة عام 1981م .. قال لي كنا في مجلة الاعتصام نقود حملة شرسة ضد اللحوم المستوردة والمشكوك في طريقة ذبحها عندما علمنا أن بعضها يقتل بالصعق الكهربائي أو بالضرب علي الرأس بدون تزكية .. وكنا نطالب الناس بعدم تناولها لأنها حرام وفي هذه الأثناء عقد الشيخ نجيب ألمطيعي رحمة الله عليه ( وهو من حفظة البخاري سندا ومتنا) ندوة في أحد المساجد وسأله سائل عن اللحوم المستوردة فأفتي الشيخ بحل أكلها .. وكانت بين الشيخ نجيب والأستاذ حسن علاقة نسب وبينما كان في زيارته فتح الأستاذ حسن عاشور ثلاجة الشيخ فوجد فيها لحما بلديا من الجزار فسأله لماذا لا تشتري لحما مستوردا فقال الشيخ .. أنا لا أقربه لأنه حرام ومشكوك في طريقة ذبحه .. فقال الأستاذ حسن وفتواك في المسجد بجواز أكله ..؟ فقال الشيخ نجيب ألمطيعي .. اسمع يا حسن إن الناس في هذا الزمان قابضون علي دينهم مثل القابض علي الجمر وهم في وضع اقتصادي صعب فلو أفتيتهم بحرمة اللحوم المستوردة واضطروا تحت ضغط الحاجة وضعف الدين للأكل منها تجرءوا علي الحرام وإذا تجرءوا علي الحرام الذي فيه شبهة وقعوا في الحرام البين الواضح وارتكبوا الكبائر ( من باب ضايع ضايع) .. فأردت بفتواي هذه أن أجعل بين الناس وبين الحرام البين حاجزا وزاجرا مراعاة لرقة الدين وضيق ذات اليد .. وبعد سنوات قرأت كثيرا في هذه المعاني وضرورة ارتباط الفتوى بالحكمة .. فإذا كانت الفتوى هي بيان حكم الشرع في المسالة فإن الحكمة هي وضع الشيء في محله ومراعاة مقتضي الحال فلا ينفك كلاهما عن الأخر .. فالذي يفتي الناس بما عنده من معلومات ونصوص بدون حكمة يشبه هذا الرجل الذي حفظ الموطأ عن ظهر قلب ولكن الشافعي علق عليه قائلا زاد الموطأ نسخة .. فهذا رسولنا صلي الله عليه وسلم يقول لعائشة رضوان الله عليها لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها علي قواعد إبراهيم ( أي أدخل حجر إسماعيل في البناء كما كانت سابقا) ولكنه آثر ألا يثير بلبلة ولغطا والقوم قد دخلوا الإسلام حديثا ولم يتربوا بالقدر الكافي الذي يجعلهم يستوعبون هذا التجديد الذي أراده النبي صلي الله عليه وسلم .. وكان الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله عليه في زيارة لإحدى القرى وكان فيها عائلتان متخاصمتان بينهما ما صنع الحداد والسبب أن احدي العائلتين تريد أن تؤذن للصلاة بقول أشهد أن محمدا رسول الله والأخرى تريد أن تؤذن بأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ولما وصل الشيخ حسن البنا احتكما إليه هل يقولون سيدنا أم لا..؟ فأطرق الرجل العبقري برهة ثم رفع رأسه وأفتاهم بفتوى عجيبة فقال أري أن تصلوا بدون أذان فقالوا وكيف هذا والآذان سنة النبي صلي الله عليه وسلم فقال الرجل نعم الأذان سنة ولكن اجتماع كلمة المسلمين فرض فلا يجوز أن نقدم السنة علي الفرض أبدا .. فعندما يفتينا المفتي ( وهو عالم جليل) بأن الشباب الغرقى علي سواحل ايطاليا ليسوا شهداء وجثثهم لما تنتشل بعد ودموع أمهاتهم مازالت ساخنة تكون الفتوى ( ولو صحت) جانبت الحكمة .. ولو قال شيخ الأزهر حد القذف الجلد ( وهي فتوى صحيحة) في وقت التربص فيه متبادل بين السلطة والصحفيين تكون الفتوى جانبت الحكمة ووظفت في صراع سياسي ولو قالت دار الإفتاء أن الفلاح الذي يحرق قش الأرز آثم قلبه في الوقت الذي لم تحل الحكومة له المشكلة أو تعاونه في التخلص من هذا القش أوالانتفاع به تكون فتوى موظفة لصالح وزارة البيئة وجانبت الحكمة .. ثم كيف تتهم الحكومة العاجزة الإخوان المسلمين باستغلال الدين لأهداف سياسية ثم تمارس نفس الفعل وبشكل أحمق وفج

فمثلا للتخلص من مسئوليتها عن غرق هؤلاء العاطلين الفارين من مصر المحروسة عندما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فلجأت لفتوى تحمل الضحايا مسئولية غرقهم .. ولو كنت مكان المفتي لجعلت دماء هؤلاء الضحايا برقبة القيادة السياسية وبلسان كل خطيب طنطن في مؤتمر الحزب الوطني بانجازات كاذبة خادعة ويبد كل منافق صفق لهذا اللغو الغث ولجعلت إصرهم علي كل من سوق الأحلام حول أرقام موهومة ومشروعات مختلقة كذبها الواقع وشهد بها مصرع هؤلاء البؤساء.

وعندما تعجز وزارة البيئة عن حل مشكلة حرق قش الأرز فتستجير بدار الإفتاء لتحميل الفلاحين جريرة السحابة السوداء بفتوى منقوصة لما تستكمل أركان الواقع كله وتكتفي بمقولة لا ضرر ولا ضرار وهي قولة حق أريد بها باطل.. وتكون الوزارة قد استغلت الدين في غرض سياسي .

انجازات الحكومة لا تحتاج لخطب رنانة ولا شعارات براقة ولا فتاوى موظفة .. الإنجاز لو حدث فسيشعر به المواطن واقعا يحياه يتمثل في عدد الجنيهات التي يكسبها من عمل كريم مناسب.. وبتعليم أولاده في مدارس لا تكلفه فوق طاقته ..وبرعاية صحية يحفظ بها ماء وجهه.. وبسكن يأمن فيه علي نفسه وأهله وساعتها لن نحتاج لخطب البلغاء وإحصاءات العلماء وتصريحات الوزراء وفتاوى الفقهاء ولن نحتاج ساعتها لشعارات الحزب الوطني الديمقراطي ( بلدنا بتتقدم بينا أو تتأخر بيكم) وحسبنا الله ونعم الوكيل

دكتور علاء الدين عباس

الزاهر – مكة المكرمة

Alaasaleh59@hotmail.com

منقول عن موقع ( جريدة المصريون الإلكترونية )

www.almesryoon.com