تاريخ المغرب ....برغــواطة : مـمـلكـة المجــوس
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
تاريخ المغرب ....برغــواطة : مـمـلكـة المجــوس
تاريخ المغرب ....برغــواطة : مـمـلكـة المجــوس "مملكة المجوس"، هكذا كان يلقبهم المغاربة الموالون لمخزن القرون الوسطى. حكموا منطقة تامسنا الممتدة من أبي رقراق إلى أم الربيع، طوال أربعة قرون. كان لإمارتهم نبيها وقرآنها وطقوسها. لكن السلطة المركزية، منذ الموحدين، لم تترك لهم أي أثر "برغواطة"، الاسم يبدو غريبا على مسامع الناس، وكأنه آت من عالم آخر. منهم من سمع به يوما ما ولم يعلم عمّا يدل، لأنه غير وارد في مقررات التاريخ المدرسية.
«ومنهم من قرأ سطرا عنه في الموقع الرسمي لوزارة الاتصال، لا يفهم منه سوى أنهم «قوم تمردوا على الخلافة الأموية». ومنهم أمازيغ علموا بالتوارث أن البرغواطيين هم آخر دولة مغربية كان ملوكها اولاد البلاد من أولهم إلى آخرهم. الوقوف عند هذه الإشارات الغامضة لا يكفي للذهاب بعيدا واستكشاف من هم البرغواطيون. ما لا يعلمه العامة هو أنهم حكموا منطقة تامسنا، الممتدة من سلا إلى آسفي (أو ما يصطلح عليه اليوم بالمغرب النافع) مدة 4 قرون، وأنهم بخلاف ما قد تشير إليه كتب التاريخ، لم يخضعوا لا لسلطة الأدارسة ولا حتى للمرابطين، وأن هؤلاء إذن لم يحكموا عموما، وفي فترات متقطعة، سوى الصحراء والأطلس والشمال والريف. والأدهى أن البرغواطيين لم يكونوا يدينون بإسلام السنة ولا حتى بإسلام النبي محمد، إذ كان لهم نبيهم وقرآنهم وطقوسهم الخاصة. توصل أخيرا فريق من الباحثين، بعد سنوات من الحفريات، إلى أن أحد المقابر التي كان يدفن فيها قومهم قرب مدينة الگارة، كانت تدعى مقبرة «المجوس». اللفظة تعني حرفيا «عبدة النار» لكنها هنا، حسب الباحث المسؤول عن الحفريات، أحمد سراج، «كناية عن البرغواطيين الذين لم يكن دينهم مطابقا لقواعد الإسلام». التسمية دليل كذلك على قلة تسامح أهل المغرب، منذ ذلك الزمن، مع من يخالفهم المذهب والمعتقد. فكل الكتابات، على قلتها، التي تحكي لنا حقيقة هؤلاء القوم تقف عند تفاصيل من قبيل تحريمهم ذبح الديك لأنه مؤذنهم، ومنعهم أكل البيض أو تحكمهم في آليات السحر وعلم الأجرام. هذه حقائق تاريخية مدونة وثابتة، لكنها لا تمثل سوى قسط ضئيل من ثقافتهم ودينهم. فمن هم إذن أصحاب ما اصطلح عليه بـ«مملكة المجوس»، التي عمرت من 742 إلى 1148 ميلادية، ولم يبق لها أثر منذ ذلك التاريخ؟
قبل الثأر بالسيف، ذهب ميسرة البربري عند الخليفة الأموي هشام بن عبد المالك وترك له كتابا مستفسرا عن تعامل أصحابه مع المغاربة: «أميرنا يذهب في حملة وحين يحصل على غنيمة يستثنينا، فنقول جاهدنا في سبيل الله. حين نحاصر مدينة من المدن، يقول لنا تقدموا ويترك الجيوش العرب إلى الخلف، ونقول مرة أخرى إن أجرنا عند الله سيكون أكبر. أما حين يخطف كل بنت جميلة من بناتنا، فنود أن نعلم هل كل ذلك يتم تلبية لطلبكم». لم تجد الرسالة نفعا، وتعاظمت قيمة المكوس والجبايات التي فرضها المسلمون على البربر، واختطف الفاتحون نحو 13 ألف بنت بربرية خارقة الجمال وقدموها هدية لحكامهم، آنذاك ذهب ميسرة وطريف إلى قيروان لمنازلة مسلمي المشرق عام 740. هناك انهزمت قوات ميسرة واستطاع طريف أن يفلت بجلده فركن إلى منطقة تامسنا. منذ ذلك الحين أصبحت برغواطة تشير إلى مجموع القبائل، وأغلبها من مصمودة وزناتة، التي انضوت تحت لواء القائد العائد. يقول أبو عبيد البكري، «قدم البربر طريف على أنفسهم وتولى أمرهم. وكان على ديانة الإسلام». هذا التوضيح مهم، لأنه بقدر ما كان طريف مؤسس الدولة الفعلي، بقدر ما اعتبر ابنه، صالح بن طريف، هو مؤسسها الروحي وصاحب ديانتها.
الأمور في الواقع لم تكن بهذه السلاسة. لم يخرج البرغواطيون عن الإسلام دفعة واحدة، فخلال القرن الأول من حكم بني طريف لم يجهر صالح ولا حتى ابنه إلياس بالنبوة. ظلا على مذهب العباديين من الخوارج يقول الرواة إن صالح كان يخشى على نفسه، إذ «عهد لابنه، حسب البكري، بديانته وعلمه وشرائعه وفقهه وأمره أن لا يظهر ذلك إلا إذا قوي وأَمِن، فإنه يدعو ملْته (الى دينه) ويقتل من خالفه. بالضبط كما فعل النبي محمد في المشرق. وكأن البرغواطيين يودون خلق صورة مطابقة لرسول الله بالمغرب. الفرق هو أن صالح بن طريف، الرجل الورع الذي استطاع جمع 35 قبيلة من حوله، ظل صامتا طوال حياته. أما ابنه إلياس، فلم يهتم، تلبية لطلب أبيه، سوى بتقوية علاقات الإمارة الجديدة مع الأندلس، عبر موانئ أنفا وشالة وفضالة، مستغلا خصب منطقة تامسنا وغزارة إنتاج الحبوب بها . كان لا بد من انتظار الأمير الثالث يونس لتخرج نبوة بني طريف من السر إلى العلن. بدأت إرهاصات هذا التحول تظهر منذ عام 816، حين رحل يونس صحبة أربعة أئمة مغاربة من المعتزلة والخوارج ليتتلمذوا على يد أهل العلم في دمشق. وهناك تعلم يونس علم الفلك والتنجيم إضافة إلى علم الكلام والجدال على يد شيخ معتزلي. كان يونس أول برغواطي يذهب إلى الحج ويعود منه متشبعا بعلم العرب.
لم يكن بالمغرب حينها سوى عرب عاربة يأتون من المشرق بسلطة الانتماء للخلافة أو لِآل البيت، أو أمازيغ لم يبرحوا مكانهم. أما يونس، فقد نهل من العلم إلى حد التخمة، حيث كان يتناول عقاقير مساعدة على حفظ الذاكرة، حسب البكري. حينما عاد إلى إمارة أبيه «أصبح يتنبأ بالكسوف والخسوف، مما جعله أقرب إلى النبوءة»، يذكر محمد الطالبي. فيونس، العالم بأسرار الكون، وجد نفسه وسط قوم لا يفقهون، مما سهل عليه المهمة. كيف برر هذه النبوءة؟ أولا، قال، كما يذكر جل الرواة، إن النبي الأول هو جده صالح، بدليل ما جاء في القرآن، «وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا» (سورة التحرير، آية 66). «صالح المؤمنين» أصبح عندهم هو البديل عن «أمير المؤمنين» الجائر والمتعالي. بل هو أرقى منه، لأن اسم «صالح» بالأمازيغية (وارإيا وارا) يعني «الذي لا أحد بعده».
واضح أن تكوين يونس في علم الجدال ساعده، بحسب محمد الطالبي، على تكوين نسق مكتمل لنبوة جده ونبوته من بعده. فقد أخرج من جعبته آية أخرى للاستدلال على أحقية صالح بالنبوة، حيث يقول القرآن المحمدي «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» (سورة إبراهيم آية 14). وبما أن محمدا عربي فصالح أولى به بتبليغ الرسالة لأهله في بلد المغرب. يونس لم يستثن نبوة محمد، كما أنه خصص لعيسى مكانة خاصة، إذ تنبأ بصلاته وراء «صالح المؤمنين» وأفرد لموسى مكانة أرقى، حيث نهل كثيرا من أقواله. وحين سئل يونس عن سكوت جده، يقال إنه ذكر بواجب «التقية». التظاهر بغير ما نعتقده يظهر كذلك، حسب محمد الطالبي «تأثير الفكر الشيعي»، الذي بدأ يدب ويقترب، إذ تحولت تحت إمرة الأدارسة قبيلة بنولماس، بالأطلس على باب تامسنا، إلى الشيعية الإسماعيلية. تأثير الفكر الشيعي يظهر كذلك من خلال تنبؤ يونس بعودة جده صالح تحت حكم ملك بني طريف السابع كأنه المهدي المنتظر. وهو ما قد يشير، حسب المؤرخ مولود عشاق، المختص في الموضوع «على وجود آثار فكر مهدوي عند البرغواطيين».
أما قول يونس بتوارث النبوة، وتعيين نفسه خلفا لجده، فقد رأى فيه محمد الطالبي استنجادا بشيخ مبجل بغرض إعطاء مصداقية لحكمه. عرف يونس وابنه أبو غفير بالقوة والبطش خلال فترتي حكمهما. يتحدث البكري عن 387 مدينة ذبح أهلها، وعن 7770 قتيلا من قبائل صنهاجة في موقعة واحدة. ربما كانت هناك مبالغة، بحسب مولود عشاق، لأن الرواة المعتمدين كانوا على خلاف دين البرغواطيين، فالبكري سني وأبو القاسم ابن حوقل شيعي. أما محمد الطالبي، فيرى أن العنف يظهر، كيفما كان مداه، مقاومة القبائل للدين الجديد، فاثنا عشر منهم فقط قبلوا نبوءة بني طريف، أما السبعة عشر قبيلة الأخرى التي ظلت تحت إمرتهم فقد بقيت على مذهب الإسلام المعتزلي، الذي كانت تدين به. البرغواطيون تعاملوا مع هؤلاء القبائل كحلفاء ولم يضطهدوهم باسم دينهم الجديد. ما هي إذن مقومات الدين البرغواطي الجديد؟ هل هو صيغة محلية للإسلام؟ هل هو مزيج من الديانات السماوية؟ هل هو صيغة مزيدة من مذهب الخوارج الداعي للديمقراطية ممتزج بالفكر الشيعي الموالي لإسلام علي؟ أم هو كما يظنه العامة دين وثني مجوسي؟
ما هي العناصر التي وصلتنا من دين البرغواطيين؟ قرآنهم أولا. فهو يضم بحسب أبي صالح زمور المدعو «القائم بصلاتهم» ثمانين سورة. أسماء أغلبها منسوبة للأنبياء (آدم، أيوب، يونس...) وبعضها للقصص (فرعون، ياجوج وماجوج، الدجال، العجل...) وسور أخرى منسوبة للحيوانات (الديك، الجمل، الجراد، الحنش...). لم توجد في منطقة تامسنا التي استوطنوها أية صيغة مكتوبة لهذا القرآن، لكن البكري أورد مقتطفا من سورة أيوب المقابلة للفاتحة عندهم. يقول النص «بسم الله الذي أرسل كتابه إلى الناس هو الذي بين لهم به أخباره، قالوا علم إبليس القضية، أبى الله، ليس يطيق إبليس». وكلمة «الله» هنا ترجمة لكلمة «ياكوش» الذي اعتبره البعض إلاه البرغواطيين، والبعض الآخر اعتبره ترجمة لله، كما آمن به الخوارج من قبل من ضمن الأمازيغ المسلمين. هذا الرأي يسانده محمد الطالبي، إذ يرى أن دين بني طريف «لم يتحرر من الإسلام وإنما أعطاه صيغة أمازيغية محلية ومستقلة عن الشرق، بقرآن محلي ونبي محلي». الأمر لا يقف عند حد النصوص، فالبرغواطيون، حسبما دعاهم إليه يونس نسبة إلى جده صالح، كانوا يصومون رجب بدل رمضان ويجتمعون الخميس بدل الجمعة، ويصلون بعض الصلوات، دون ركوع ولا سجود مثل النصارى، ويغسلون الصرة والخاصرتين أثناء الوضوء ويصلون خمس مرات يوما وخمسا ليلا. أوجه المغالاة هذه، الممزوجة بالبريكولاج الديني، قد تعني أنهم أرادوا الظهور كمسلمين حقيقيين وليسوا في حاجة لدروس من أهل الشرق الجائرين، وأنهم قادرون على إنتاج قواعدهم، ذلك ما يذهب إليه الطالبي. لكن تشددهم في الدين كان يوازي تحليلهم لملذات الحياة، فقواعد التشريع البرغواطي تبيح الزواج من النساء بقدر ما استطاع الرجل مباعلتهم كما يبيح العود بعد الطلاق، دون قيد. ولعل ما كان يثير الأغراب لبلادهم، حسب ليون الإفريقي، جمال نسائهم البارع. على المستوى الشعبي، تمتزج طقوس البرغواطيين بشكل ملفت مع معتقدات وثنية موروثة ومع ممارسات «سحرية» مكتسبة من قبل تقديس الديك. هذا الاعتقاد ما زال قائما بمنطقة زمور، حيث وصل نفوذ البرغواطيين في نهاية القرن التاسع، فالزموريون ما زالوا يقولون في الفجر «لا يتودان أفلوس» )يؤذن الديك(، أما في ما يخص استبعاد أكل رأس الحيوانات ومنها الحوت، ومنع أكل البيض فما زالت قائمة عند بعض أعضاء قبائل مصمودة الذين لجؤوا إلى سوس. تحريم لحم الديك وأكل البيض يربطه المستشرق ناحوم سلوش في مجلة العالم الإسلامي بتأثير اليهودية على الديانة البرغواطية، حيث يلعب الديك كحيوان مقدس دورا مهما في محو الخطيئة والمعصية لدى يهود المشرق بالصحراء. سلوش يلاحظ أن ديانة صالح بن طريف تعطي لموسى مكانة أرقى عن عيسى ومحمد.
لذلك يقول إن «ديانة برغواطة إسلامية في شكلها، بربرية في طقوسها، يهودية في عمقها وميولاتها». قليل من المؤرخين والباحثين يشاطرن المستشرق سلوش رأيه. مولود عشاق يذكر أن قبائل الأمازيغ ارتدوا عن الإسلام 12 مرة، وأن كل من كان يشكك في الخلافة الشرعية وبالأحرى يستقل عنها )مثل برغواطة( كانت تطلق عليه السلطة الرسمية صفة «اليهودي، المجوسي أو الكافر». في الواقع يستنتج محمد الطالبي بأن البرغواطيين تعاملو «مع الإسلام كثقافة دخيلة، كقوة استعمارية سالبة، لكنهم امتلكوها وحولوها لصالحهم». هذا لا يمنع رواة مسلمين مثل بن حوقل من القول إن دين بني طريف «بدّل عقول الناس وبدّل معارفهم وافترض عليهم طاعته في سنن ابتدعها». وهو حال فرق إسلامية أخرى مخالفة للمذهب الرسمي لم توءد في بداياتها، مثل البهائيين والدروز، الذين ألّفوا بدورهم دينا خاصا بهم. فما الفرق بينها وبين البرغواطيين؟
الفرق الحاصل مع الأقليات الأخرى أن البرغواطيين أصبحوا قوة سياسية مهابة الجانب. فبعد حدوث مجزرة وادي بهت ومذبحة قرية تيماغين التي جعلتهم يوسعون من نفوذهم مع بداية القرن العاشر، وصل إلى سدة الحكم رجل مسالم اسمه عبدالله أبو الأنصار، مثقف، معطاء، استطاع بخلاف أسلافه أن يجمع الكثير من الحلفاء دون إراقة دماء. يقول البكري «كان يجمع جنده وجيشه في كل عام ويظهر أنه يغزو من حوله فتهاديه القبائل وتستألفه، فإذا قبل هداياهم وألطافهم فرق أصحابه». هذا الوصف يظهر كيف أصبحت القبائل من حول مملكة برغواطة تهابها وتود مهادنتها. أما حين وصل أبو منصور عيسى إلى الحكم حوالي عام 953، فقد جدد نبوة جده وتبعته، بحسب ما يرويه سفيره إلى قرطبة، قبائل غزاوة وزاوغة والبرانس وبنو أبي نصير ومنغنيســة وبنو مغـمور ومطغرة، مما جعله يتوفر على 10000 فارس. أما القبائل الأخرى التي ظلت على مذهب الخوارج، فقد وضعت رهن إشارته 10000 فارس احتياطي. ما الذي يفسر هذا التعاضد؟ «لم يكن ما يجمعهم قبلي، يقول محمد الطالبي، ولكن قومي. تعلموا أن السلطة المركزية التي تضطهدهم وتهينهم ليست مشروعة وأن الثورة عليها ليست فقط حق وإنما واجب».
لكن بعد قرنين من وجود البرغواطيين، لم يعد دافع الثورة وحده يفسر استمراريتهم وقوتهم العسكرية. فعلا، يظهر أن هناك أربع طبقات تحدد البنية القبلية عندهم، بحسب ما توصل إليه مولود عشاق. نجد في الطابق الأول ذرية بني طريف، أصحاب الملك وقائدي الحلف البرغواطي إيديولوجيا وروحيا. يتبعهم المصامدة، الذين كانوا يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة، ثم القبائل المنحدرة من زناتة وصنهاجة، والتي حصلت على مكانة في المجتمع بفضل التجارة، وأخيرا قبائل ذات أصل سوداني، حليفة للبرغواطيين بحكم تحكمها في قوافل الصحراء. تكونت مع الزمن هوية الانتماء إلى الإمارة. أصبحت حدودها، يقول أحمد سراج، مكونة من قبائل ومحاربين وليس فقط من أنهار وغابات. لكن ما الذي جعل البرغواطيين يكونون قوة ضاربة فيما لم يفلح أندادهم (إمارات النكور بالشمال ومكناسة في سجلماسة) من تحقيق ذلك؟ ليس هناك تفسير واحد لهذا الانفراد. على المستوى السيكولوجي، كما يقول محمد الطالبي، يجب أن نعي ما قدمه بنو طريف للقبائل من حولهم «قرآن بلسانهم، نبي من قومهم وشعائر خاصة بهم»، كأنما أصبح البرغواطيون أهل البيت، مع الفارق طبعا. مولود عشاق يذهب إلى تفسير عقلاني أكثر، معتبرا أن منطقة تامسنا منطقة ذات منعة واعتصام، فهي مكونة من غابات ووديان ومغارات. عين السبع وعين الذئاب بآنفا، لم تكن مجرد تسميات، والبحر من الخلف كان يبدو للأدارسة والمرابطين من بعدهم كبحر الظلمات. إضافة إلى كل ذلك بنى بنو طريف ما يناهز 400 حصن في مدنهم الاستراتيجية، شالة، فضالة، آنفا الخ. لكن القوة الضاربة وراء كل هذا تظل هي القوة الاقتصادية. فقد ظل التصدير إلى إسبانيا هو سلاحهم الأنجع. بل إن قوتهم أوصلتهم كذلك إلى الجنوب. يقول ابن حوقل «وقد يصل إليهم أهل أغمات وسوس بالتجارة وكذلك قوم من أهل سجلماسة». كل ذلك يعني، حسب المؤرخين، أن البرغواطيين كانوا يمتهنون الوساطة التجارية بإتقان. مما يعني أن القوافل كانت سالكة، فالعلاقة حتى مع فاس، حيث كان حكم الأدارسة بين مد وجزر، لم تنقطع إلا في حالات الحرب.
أما بخصوص الزراعة، فيكفي أن نورد ما قاله ليون الإفريقي «في عهد أولئك المبتدعين، بلغت وفرة القمح درجة جعلت الناس يستبدلون أحيانا حمل جمل بنعلين». تحكم برغواطة في منطقة حساسة ومنافذ بحرية استراتيجية، هو الذي جعلها، بحسب المختصين، وسط صراعات الأمويين السنيين والفاطميين الشيعة وحلفائهم في المغرب. «حاولوا القضاء عليهم لأسباب اقتصادية وسياسية وليس لأسباب دينية»، يقول مولود عشاق. أما قوتهم العسكرية، فستظهر بجلاء مع محاولة مؤسس الدولة المرابطية عبدالله بن ياسين القضاء عليهم عام 1059. «لقد دخل، يقول مولود عشاق، في مغامرة غير محسوبة. ظن أنه يستطيع القضاء عليهم، بينما هو آت من الصحراء والبرغواطيون أدرى بوعورة منطقتهم». والأهم، بحسب أحمد سراج، أن لهم قوة قبلية لا يستهان بها». قتل إذن بن ياسين على أيديهم ودفن بقرية نائية تدعى كريفلة، غير بعيد عن ازحيليگة، في قلب "مملكة المجوس"
لكن لا سبيل لمعرفة متى استطاع الموحدون تفريق القبائل الموالية لبرغواطة، وهل تم أولا القضاء على دولة بني طريف أم على التركبية القبلية التي كونت قوتهم الضاربة. وكأنها قصة سحرة، عمروا، حكموا فذهبوا إلى حال سبيلهم. ونبوءتهم؟ أصبحت قصة من قصص الدجالين، تقرأ في الكتب الصفراء لا غير. أما تاريخهم، فأخيرا سيكتب له الخروج من الظل، إذ يؤكد لنا مدير المعهد الملكي للدراسات التاريخية، محمد قبلي، أن موجز تاريخ المغرب الذي هو قيد التحضير "سيضم لأول مرة كل ما نتوفر عليه عنهم، على قلته». وأخيرا سيتعرف المغاربة على أجدادنا البرغواطيين ويعلمون أنهم لم يكونوا لامجوس ولا هم يحزنون"
المصدر جريدة نيشان
«ومنهم من قرأ سطرا عنه في الموقع الرسمي لوزارة الاتصال، لا يفهم منه سوى أنهم «قوم تمردوا على الخلافة الأموية». ومنهم أمازيغ علموا بالتوارث أن البرغواطيين هم آخر دولة مغربية كان ملوكها اولاد البلاد من أولهم إلى آخرهم. الوقوف عند هذه الإشارات الغامضة لا يكفي للذهاب بعيدا واستكشاف من هم البرغواطيون. ما لا يعلمه العامة هو أنهم حكموا منطقة تامسنا، الممتدة من سلا إلى آسفي (أو ما يصطلح عليه اليوم بالمغرب النافع) مدة 4 قرون، وأنهم بخلاف ما قد تشير إليه كتب التاريخ، لم يخضعوا لا لسلطة الأدارسة ولا حتى للمرابطين، وأن هؤلاء إذن لم يحكموا عموما، وفي فترات متقطعة، سوى الصحراء والأطلس والشمال والريف. والأدهى أن البرغواطيين لم يكونوا يدينون بإسلام السنة ولا حتى بإسلام النبي محمد، إذ كان لهم نبيهم وقرآنهم وطقوسهم الخاصة. توصل أخيرا فريق من الباحثين، بعد سنوات من الحفريات، إلى أن أحد المقابر التي كان يدفن فيها قومهم قرب مدينة الگارة، كانت تدعى مقبرة «المجوس». اللفظة تعني حرفيا «عبدة النار» لكنها هنا، حسب الباحث المسؤول عن الحفريات، أحمد سراج، «كناية عن البرغواطيين الذين لم يكن دينهم مطابقا لقواعد الإسلام». التسمية دليل كذلك على قلة تسامح أهل المغرب، منذ ذلك الزمن، مع من يخالفهم المذهب والمعتقد. فكل الكتابات، على قلتها، التي تحكي لنا حقيقة هؤلاء القوم تقف عند تفاصيل من قبيل تحريمهم ذبح الديك لأنه مؤذنهم، ومنعهم أكل البيض أو تحكمهم في آليات السحر وعلم الأجرام. هذه حقائق تاريخية مدونة وثابتة، لكنها لا تمثل سوى قسط ضئيل من ثقافتهم ودينهم. فمن هم إذن أصحاب ما اصطلح عليه بـ«مملكة المجوس»، التي عمرت من 742 إلى 1148 ميلادية، ولم يبق لها أثر منذ ذلك التاريخ؟
الاسم، النسب والهوية
عرف البرغواطيون كذلك باسم «بنو طريف»، نسبة إلى مؤسس الإمارة طريف. التحق هذا المقاتل المغربي عام 710 بجنود العرب القادمين من الشرق، الذين زحفوا على إسبانيا. وقد حصل مقابل جهاده على أراض «بريو برباطي» بالأندلس. ويجمع أغلب المؤرخين أن هذا هو أصل تسمية برغواطة. لا أحد يفسر كيف انتقل المغاربة من «بربط» إلى «برغط»، ولكن تلك سنة الكلمات الأعجمية الأصل. مقام طريف بإسبانيا خلق التباسا لدى المؤرخين بخصوص أصله، فهناك من اعتبره أمازيغيا، وهناك من ذهب إلى أنه أندلسي، بدليل أن مدينة طريفة تحمل اسمه. لكن أبو صالح زمور، الذي أصبح لاحقا سفيرا لبرغواطة في قرطبة، ذكر أنه ينحدر من أصل يهودي، إذ كان أحد أجداده يحمل اسم شمعون بن يعقوب. شكك ابن خلدون في هذا النسب إذ اعتبر أن «العصبية القبلية هي السبيل الوحيد إلى السلطة» وأنه لا يمكن ليهودي أن يحكم دون مقاومة قبلية شرسة. بعضهم ذهب إلى أن تهويد طريف في الكتابات التاريخية ما هو إلا وسيلة للتقليل من شرعيته. لكن لا سبيل للتأكد من أصله الفعلي، والأهم ليس هو من أين أتى، ولكن ماذا فعل. بعد عودة طريف من الأندلس، تمت توليته قائدا عسكريا على قبائل زناتة وزواغة، فصاحَب ميسرة المطغري المعروف بانتمائه للخوارج، في حملته ضد الفاتحين، وعلى رأسهم موسى بن نصير. «نظراً لانشغال الخلفاء عن المغرب، لم يكن يهم الفاتحين تحويل المغاربة إلى الإسلام بقدر ما كان يهمهم نهب أموالهم وهتك أعراضهم»، يذكر الباحث التونسي محمد الطالبي.قبل الثأر بالسيف، ذهب ميسرة البربري عند الخليفة الأموي هشام بن عبد المالك وترك له كتابا مستفسرا عن تعامل أصحابه مع المغاربة: «أميرنا يذهب في حملة وحين يحصل على غنيمة يستثنينا، فنقول جاهدنا في سبيل الله. حين نحاصر مدينة من المدن، يقول لنا تقدموا ويترك الجيوش العرب إلى الخلف، ونقول مرة أخرى إن أجرنا عند الله سيكون أكبر. أما حين يخطف كل بنت جميلة من بناتنا، فنود أن نعلم هل كل ذلك يتم تلبية لطلبكم». لم تجد الرسالة نفعا، وتعاظمت قيمة المكوس والجبايات التي فرضها المسلمون على البربر، واختطف الفاتحون نحو 13 ألف بنت بربرية خارقة الجمال وقدموها هدية لحكامهم، آنذاك ذهب ميسرة وطريف إلى قيروان لمنازلة مسلمي المشرق عام 740. هناك انهزمت قوات ميسرة واستطاع طريف أن يفلت بجلده فركن إلى منطقة تامسنا. منذ ذلك الحين أصبحت برغواطة تشير إلى مجموع القبائل، وأغلبها من مصمودة وزناتة، التي انضوت تحت لواء القائد العائد. يقول أبو عبيد البكري، «قدم البربر طريف على أنفسهم وتولى أمرهم. وكان على ديانة الإسلام». هذا التوضيح مهم، لأنه بقدر ما كان طريف مؤسس الدولة الفعلي، بقدر ما اعتبر ابنه، صالح بن طريف، هو مؤسسها الروحي وصاحب ديانتها.
من التقية إلى النبوة
الأمور في الواقع لم تكن بهذه السلاسة. لم يخرج البرغواطيون عن الإسلام دفعة واحدة، فخلال القرن الأول من حكم بني طريف لم يجهر صالح ولا حتى ابنه إلياس بالنبوة. ظلا على مذهب العباديين من الخوارج يقول الرواة إن صالح كان يخشى على نفسه، إذ «عهد لابنه، حسب البكري، بديانته وعلمه وشرائعه وفقهه وأمره أن لا يظهر ذلك إلا إذا قوي وأَمِن، فإنه يدعو ملْته (الى دينه) ويقتل من خالفه. بالضبط كما فعل النبي محمد في المشرق. وكأن البرغواطيين يودون خلق صورة مطابقة لرسول الله بالمغرب. الفرق هو أن صالح بن طريف، الرجل الورع الذي استطاع جمع 35 قبيلة من حوله، ظل صامتا طوال حياته. أما ابنه إلياس، فلم يهتم، تلبية لطلب أبيه، سوى بتقوية علاقات الإمارة الجديدة مع الأندلس، عبر موانئ أنفا وشالة وفضالة، مستغلا خصب منطقة تامسنا وغزارة إنتاج الحبوب بها . كان لا بد من انتظار الأمير الثالث يونس لتخرج نبوة بني طريف من السر إلى العلن. بدأت إرهاصات هذا التحول تظهر منذ عام 816، حين رحل يونس صحبة أربعة أئمة مغاربة من المعتزلة والخوارج ليتتلمذوا على يد أهل العلم في دمشق. وهناك تعلم يونس علم الفلك والتنجيم إضافة إلى علم الكلام والجدال على يد شيخ معتزلي. كان يونس أول برغواطي يذهب إلى الحج ويعود منه متشبعا بعلم العرب.
لم يكن بالمغرب حينها سوى عرب عاربة يأتون من المشرق بسلطة الانتماء للخلافة أو لِآل البيت، أو أمازيغ لم يبرحوا مكانهم. أما يونس، فقد نهل من العلم إلى حد التخمة، حيث كان يتناول عقاقير مساعدة على حفظ الذاكرة، حسب البكري. حينما عاد إلى إمارة أبيه «أصبح يتنبأ بالكسوف والخسوف، مما جعله أقرب إلى النبوءة»، يذكر محمد الطالبي. فيونس، العالم بأسرار الكون، وجد نفسه وسط قوم لا يفقهون، مما سهل عليه المهمة. كيف برر هذه النبوءة؟ أولا، قال، كما يذكر جل الرواة، إن النبي الأول هو جده صالح، بدليل ما جاء في القرآن، «وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا» (سورة التحرير، آية 66). «صالح المؤمنين» أصبح عندهم هو البديل عن «أمير المؤمنين» الجائر والمتعالي. بل هو أرقى منه، لأن اسم «صالح» بالأمازيغية (وارإيا وارا) يعني «الذي لا أحد بعده».
واضح أن تكوين يونس في علم الجدال ساعده، بحسب محمد الطالبي، على تكوين نسق مكتمل لنبوة جده ونبوته من بعده. فقد أخرج من جعبته آية أخرى للاستدلال على أحقية صالح بالنبوة، حيث يقول القرآن المحمدي «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» (سورة إبراهيم آية 14). وبما أن محمدا عربي فصالح أولى به بتبليغ الرسالة لأهله في بلد المغرب. يونس لم يستثن نبوة محمد، كما أنه خصص لعيسى مكانة خاصة، إذ تنبأ بصلاته وراء «صالح المؤمنين» وأفرد لموسى مكانة أرقى، حيث نهل كثيرا من أقواله. وحين سئل يونس عن سكوت جده، يقال إنه ذكر بواجب «التقية». التظاهر بغير ما نعتقده يظهر كذلك، حسب محمد الطالبي «تأثير الفكر الشيعي»، الذي بدأ يدب ويقترب، إذ تحولت تحت إمرة الأدارسة قبيلة بنولماس، بالأطلس على باب تامسنا، إلى الشيعية الإسماعيلية. تأثير الفكر الشيعي يظهر كذلك من خلال تنبؤ يونس بعودة جده صالح تحت حكم ملك بني طريف السابع كأنه المهدي المنتظر. وهو ما قد يشير، حسب المؤرخ مولود عشاق، المختص في الموضوع «على وجود آثار فكر مهدوي عند البرغواطيين».
أما قول يونس بتوارث النبوة، وتعيين نفسه خلفا لجده، فقد رأى فيه محمد الطالبي استنجادا بشيخ مبجل بغرض إعطاء مصداقية لحكمه. عرف يونس وابنه أبو غفير بالقوة والبطش خلال فترتي حكمهما. يتحدث البكري عن 387 مدينة ذبح أهلها، وعن 7770 قتيلا من قبائل صنهاجة في موقعة واحدة. ربما كانت هناك مبالغة، بحسب مولود عشاق، لأن الرواة المعتمدين كانوا على خلاف دين البرغواطيين، فالبكري سني وأبو القاسم ابن حوقل شيعي. أما محمد الطالبي، فيرى أن العنف يظهر، كيفما كان مداه، مقاومة القبائل للدين الجديد، فاثنا عشر منهم فقط قبلوا نبوءة بني طريف، أما السبعة عشر قبيلة الأخرى التي ظلت تحت إمرتهم فقد بقيت على مذهب الإسلام المعتزلي، الذي كانت تدين به. البرغواطيون تعاملوا مع هؤلاء القبائل كحلفاء ولم يضطهدوهم باسم دينهم الجديد. ما هي إذن مقومات الدين البرغواطي الجديد؟ هل هو صيغة محلية للإسلام؟ هل هو مزيج من الديانات السماوية؟ هل هو صيغة مزيدة من مذهب الخوارج الداعي للديمقراطية ممتزج بالفكر الشيعي الموالي لإسلام علي؟ أم هو كما يظنه العامة دين وثني مجوسي؟
دينهم، قرآنهم وطقوسهم
ما هي العناصر التي وصلتنا من دين البرغواطيين؟ قرآنهم أولا. فهو يضم بحسب أبي صالح زمور المدعو «القائم بصلاتهم» ثمانين سورة. أسماء أغلبها منسوبة للأنبياء (آدم، أيوب، يونس...) وبعضها للقصص (فرعون، ياجوج وماجوج، الدجال، العجل...) وسور أخرى منسوبة للحيوانات (الديك، الجمل، الجراد، الحنش...). لم توجد في منطقة تامسنا التي استوطنوها أية صيغة مكتوبة لهذا القرآن، لكن البكري أورد مقتطفا من سورة أيوب المقابلة للفاتحة عندهم. يقول النص «بسم الله الذي أرسل كتابه إلى الناس هو الذي بين لهم به أخباره، قالوا علم إبليس القضية، أبى الله، ليس يطيق إبليس». وكلمة «الله» هنا ترجمة لكلمة «ياكوش» الذي اعتبره البعض إلاه البرغواطيين، والبعض الآخر اعتبره ترجمة لله، كما آمن به الخوارج من قبل من ضمن الأمازيغ المسلمين. هذا الرأي يسانده محمد الطالبي، إذ يرى أن دين بني طريف «لم يتحرر من الإسلام وإنما أعطاه صيغة أمازيغية محلية ومستقلة عن الشرق، بقرآن محلي ونبي محلي». الأمر لا يقف عند حد النصوص، فالبرغواطيون، حسبما دعاهم إليه يونس نسبة إلى جده صالح، كانوا يصومون رجب بدل رمضان ويجتمعون الخميس بدل الجمعة، ويصلون بعض الصلوات، دون ركوع ولا سجود مثل النصارى، ويغسلون الصرة والخاصرتين أثناء الوضوء ويصلون خمس مرات يوما وخمسا ليلا. أوجه المغالاة هذه، الممزوجة بالبريكولاج الديني، قد تعني أنهم أرادوا الظهور كمسلمين حقيقيين وليسوا في حاجة لدروس من أهل الشرق الجائرين، وأنهم قادرون على إنتاج قواعدهم، ذلك ما يذهب إليه الطالبي. لكن تشددهم في الدين كان يوازي تحليلهم لملذات الحياة، فقواعد التشريع البرغواطي تبيح الزواج من النساء بقدر ما استطاع الرجل مباعلتهم كما يبيح العود بعد الطلاق، دون قيد. ولعل ما كان يثير الأغراب لبلادهم، حسب ليون الإفريقي، جمال نسائهم البارع. على المستوى الشعبي، تمتزج طقوس البرغواطيين بشكل ملفت مع معتقدات وثنية موروثة ومع ممارسات «سحرية» مكتسبة من قبل تقديس الديك. هذا الاعتقاد ما زال قائما بمنطقة زمور، حيث وصل نفوذ البرغواطيين في نهاية القرن التاسع، فالزموريون ما زالوا يقولون في الفجر «لا يتودان أفلوس» )يؤذن الديك(، أما في ما يخص استبعاد أكل رأس الحيوانات ومنها الحوت، ومنع أكل البيض فما زالت قائمة عند بعض أعضاء قبائل مصمودة الذين لجؤوا إلى سوس. تحريم لحم الديك وأكل البيض يربطه المستشرق ناحوم سلوش في مجلة العالم الإسلامي بتأثير اليهودية على الديانة البرغواطية، حيث يلعب الديك كحيوان مقدس دورا مهما في محو الخطيئة والمعصية لدى يهود المشرق بالصحراء. سلوش يلاحظ أن ديانة صالح بن طريف تعطي لموسى مكانة أرقى عن عيسى ومحمد.
لذلك يقول إن «ديانة برغواطة إسلامية في شكلها، بربرية في طقوسها، يهودية في عمقها وميولاتها». قليل من المؤرخين والباحثين يشاطرن المستشرق سلوش رأيه. مولود عشاق يذكر أن قبائل الأمازيغ ارتدوا عن الإسلام 12 مرة، وأن كل من كان يشكك في الخلافة الشرعية وبالأحرى يستقل عنها )مثل برغواطة( كانت تطلق عليه السلطة الرسمية صفة «اليهودي، المجوسي أو الكافر». في الواقع يستنتج محمد الطالبي بأن البرغواطيين تعاملو «مع الإسلام كثقافة دخيلة، كقوة استعمارية سالبة، لكنهم امتلكوها وحولوها لصالحهم». هذا لا يمنع رواة مسلمين مثل بن حوقل من القول إن دين بني طريف «بدّل عقول الناس وبدّل معارفهم وافترض عليهم طاعته في سنن ابتدعها». وهو حال فرق إسلامية أخرى مخالفة للمذهب الرسمي لم توءد في بداياتها، مثل البهائيين والدروز، الذين ألّفوا بدورهم دينا خاصا بهم. فما الفرق بينها وبين البرغواطيين؟
قوتهم الاقتصادية وقوتهم العسكرية
الفرق الحاصل مع الأقليات الأخرى أن البرغواطيين أصبحوا قوة سياسية مهابة الجانب. فبعد حدوث مجزرة وادي بهت ومذبحة قرية تيماغين التي جعلتهم يوسعون من نفوذهم مع بداية القرن العاشر، وصل إلى سدة الحكم رجل مسالم اسمه عبدالله أبو الأنصار، مثقف، معطاء، استطاع بخلاف أسلافه أن يجمع الكثير من الحلفاء دون إراقة دماء. يقول البكري «كان يجمع جنده وجيشه في كل عام ويظهر أنه يغزو من حوله فتهاديه القبائل وتستألفه، فإذا قبل هداياهم وألطافهم فرق أصحابه». هذا الوصف يظهر كيف أصبحت القبائل من حول مملكة برغواطة تهابها وتود مهادنتها. أما حين وصل أبو منصور عيسى إلى الحكم حوالي عام 953، فقد جدد نبوة جده وتبعته، بحسب ما يرويه سفيره إلى قرطبة، قبائل غزاوة وزاوغة والبرانس وبنو أبي نصير ومنغنيســة وبنو مغـمور ومطغرة، مما جعله يتوفر على 10000 فارس. أما القبائل الأخرى التي ظلت على مذهب الخوارج، فقد وضعت رهن إشارته 10000 فارس احتياطي. ما الذي يفسر هذا التعاضد؟ «لم يكن ما يجمعهم قبلي، يقول محمد الطالبي، ولكن قومي. تعلموا أن السلطة المركزية التي تضطهدهم وتهينهم ليست مشروعة وأن الثورة عليها ليست فقط حق وإنما واجب».
لكن بعد قرنين من وجود البرغواطيين، لم يعد دافع الثورة وحده يفسر استمراريتهم وقوتهم العسكرية. فعلا، يظهر أن هناك أربع طبقات تحدد البنية القبلية عندهم، بحسب ما توصل إليه مولود عشاق. نجد في الطابق الأول ذرية بني طريف، أصحاب الملك وقائدي الحلف البرغواطي إيديولوجيا وروحيا. يتبعهم المصامدة، الذين كانوا يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة، ثم القبائل المنحدرة من زناتة وصنهاجة، والتي حصلت على مكانة في المجتمع بفضل التجارة، وأخيرا قبائل ذات أصل سوداني، حليفة للبرغواطيين بحكم تحكمها في قوافل الصحراء. تكونت مع الزمن هوية الانتماء إلى الإمارة. أصبحت حدودها، يقول أحمد سراج، مكونة من قبائل ومحاربين وليس فقط من أنهار وغابات. لكن ما الذي جعل البرغواطيين يكونون قوة ضاربة فيما لم يفلح أندادهم (إمارات النكور بالشمال ومكناسة في سجلماسة) من تحقيق ذلك؟ ليس هناك تفسير واحد لهذا الانفراد. على المستوى السيكولوجي، كما يقول محمد الطالبي، يجب أن نعي ما قدمه بنو طريف للقبائل من حولهم «قرآن بلسانهم، نبي من قومهم وشعائر خاصة بهم»، كأنما أصبح البرغواطيون أهل البيت، مع الفارق طبعا. مولود عشاق يذهب إلى تفسير عقلاني أكثر، معتبرا أن منطقة تامسنا منطقة ذات منعة واعتصام، فهي مكونة من غابات ووديان ومغارات. عين السبع وعين الذئاب بآنفا، لم تكن مجرد تسميات، والبحر من الخلف كان يبدو للأدارسة والمرابطين من بعدهم كبحر الظلمات. إضافة إلى كل ذلك بنى بنو طريف ما يناهز 400 حصن في مدنهم الاستراتيجية، شالة، فضالة، آنفا الخ. لكن القوة الضاربة وراء كل هذا تظل هي القوة الاقتصادية. فقد ظل التصدير إلى إسبانيا هو سلاحهم الأنجع. بل إن قوتهم أوصلتهم كذلك إلى الجنوب. يقول ابن حوقل «وقد يصل إليهم أهل أغمات وسوس بالتجارة وكذلك قوم من أهل سجلماسة». كل ذلك يعني، حسب المؤرخين، أن البرغواطيين كانوا يمتهنون الوساطة التجارية بإتقان. مما يعني أن القوافل كانت سالكة، فالعلاقة حتى مع فاس، حيث كان حكم الأدارسة بين مد وجزر، لم تنقطع إلا في حالات الحرب.
أما بخصوص الزراعة، فيكفي أن نورد ما قاله ليون الإفريقي «في عهد أولئك المبتدعين، بلغت وفرة القمح درجة جعلت الناس يستبدلون أحيانا حمل جمل بنعلين». تحكم برغواطة في منطقة حساسة ومنافذ بحرية استراتيجية، هو الذي جعلها، بحسب المختصين، وسط صراعات الأمويين السنيين والفاطميين الشيعة وحلفائهم في المغرب. «حاولوا القضاء عليهم لأسباب اقتصادية وسياسية وليس لأسباب دينية»، يقول مولود عشاق. أما قوتهم العسكرية، فستظهر بجلاء مع محاولة مؤسس الدولة المرابطية عبدالله بن ياسين القضاء عليهم عام 1059. «لقد دخل، يقول مولود عشاق، في مغامرة غير محسوبة. ظن أنه يستطيع القضاء عليهم، بينما هو آت من الصحراء والبرغواطيون أدرى بوعورة منطقتهم». والأهم، بحسب أحمد سراج، أن لهم قوة قبلية لا يستهان بها». قتل إذن بن ياسين على أيديهم ودفن بقرية نائية تدعى كريفلة، غير بعيد عن ازحيليگة، في قلب "مملكة المجوس"
الأفول والآثار
مع بداية القرن الحادي عشر، فقد البرغواطيون بعضا من سيادتهم على شالة والرباط مثلا، وأصبحت على ما يبدو فضالة آخر منافذهم الشمالية إلى البحر. يتحدث ليون الإفريقي عن 180 مدينة، كما أن ابن خلدون يحدثنا عن تمدن أهل برغواطة، لكن لا أثر لهذه الحكايات في الواقع. لا شك أن الغزو المتتالي على المملكة والذي أدى إلى اندحارها على يد عبد المومن بن علي الگومي الموحدي عام 1148 أتى على الكثير من المدن والحواضر، لكن لا سبيل للتأكد من ذلك. أكيد كذلك أن تحالف المرينيين فيما بعد مع قبائل زناتة على أساس نشر الإسلام السني ساهم في محو آثارهم . لكن لا سبيل لمعرفة متى استطاع الموحدون تفريق القبائل الموالية لبرغواطة، وهل تم أولا القضاء على دولة بني طريف أم على التركبية القبلية التي كونت قوتهم الضاربة. وكأنها قصة سحرة، عمروا، حكموا فذهبوا إلى حال سبيلهم. ونبوءتهم؟ أصبحت قصة من قصص الدجالين، تقرأ في الكتب الصفراء لا غير. أما تاريخهم، فأخيرا سيكتب له الخروج من الظل، إذ يؤكد لنا مدير المعهد الملكي للدراسات التاريخية، محمد قبلي، أن موجز تاريخ المغرب الذي هو قيد التحضير "سيضم لأول مرة كل ما نتوفر عليه عنهم، على قلته». وأخيرا سيتعرف المغاربة على أجدادنا البرغواطيين ويعلمون أنهم لم يكونوا لامجوس ولا هم يحزنون"
المصدر جريدة نيشان
رد: تاريخ المغرب ....برغــواطة : مـمـلكـة المجــوس
السلام عليكم. نعم اخي ان تشبيه البرغواطيين بالدروز جاء في محله لكن البرغواطيين كان لادعائهم النبوة اهداف سياسية اكتر منها دينية وذلك للالتواء على العرف الذي الفه المغاربة و الذي يعتبر ان الانتساب الى ال البيت هي الشرعية الوحيدة لتطلع الى الحكم
vertikal- مشرف
- عدد الرسائل : 222
تاريخ التسجيل : 19/08/2006
مواضيع مماثلة
» تاريخ الدولة الإسلامية
» ياسر عرفات .. تاريخ وقضيه
» العراق.. تاريخ حافل بقتل الزعماء
» تفسير سورة الفتح
» المغرب يتضامن مع شعب غزة
» ياسر عرفات .. تاريخ وقضيه
» العراق.. تاريخ حافل بقتل الزعماء
» تفسير سورة الفتح
» المغرب يتضامن مع شعب غزة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى